من القصص الطريقة في التراث العربي قصة الجمال وابنه الصغير
وتقول القصة إن رجلا من أهل البادية ساوره القلق على ابنه الصغير وأراد أن يطمئن عليه فجلس يتحدث إليه ويستشف ما بداخله من السجايا وما انطوت عليه نفسه من طموحات الحياة فقال له يا ولدي من هو مثلك الأعلى في الحياة وفكر الابن قليلا وأراد أن يرضي أباه فقال أنت يا أبي مثلي الأعلى في هذه الحياة وهل هناك من هو أفضل منك
وتوقع الابن أن يظهر على وجه أبيه علامات الرضى لكنه رأى عكس ما توقع عبوسه وقلقا وتجهما
فقال الابن ما لي أراك تضايقت من حديثي أتراني قد أغضبتك؟
وصمت الأب قليلا ثم قال لا يا ولدي لم تضايقني لكنك أقلقتني كثيرا
وتساءل الابن وفما القلق؟
أجاب الأب لأني حين كنت في مثل سنك جعلت مثلي الأعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وحاولت أن أتمثل به وأن أسلك مسلكه علني أبلغ شيئا من نجاحاته ومرت الأيام وإذا بي كما تراني مجرد جمال بسيط لا قيمة لي ولا شأن بين سكان البادية أماد لولا عناية الله أن أهلك جوعا هذا ما انتهيت إليه رغم طموحي وتعلقي بأنموذج رفيع بين سادة القوم فما عساك أنت أن تبلغ وقد اتخذت مني أنا الجمال البسيط مثلا أعلى
المثال والمثالية
تحدث كثير من الفلاسفة مثل أفلاطون وباركلي وكانت وهيجل وغيرهم عن المثال فقال البعض أن المثال هو الفكرة المجردة التي تكون نموذجا تأتي على مثالة الأشياء ووضعوا نظرية المثل فقالوا إن المثل ليس موجود في العالم المحسوس بل هو موجود في عالم عقلي غير عالمنا هو عالم الحق أما عالمنا المحسوس فهو مجرد ظلال لهذا الحق وهذه الكلمات جميلة جدا وتستحق التأمل
غير أننا حين نتداول تعبير المثل العليا فإننا نتداوله كتعبير أدبي نقصد به النماذج والمثاليات الأخلاقية والمبادئ السلوكية كالصدق والأمانة والشجاعة والحب والعطاء وغيرها فجميعها مثل عليا وقد نقصد بالمثل العليا الأشخاص الذين يتمسكون بهذا القيم العليا مما يجعلهم قدوة ونموذجا ومثالا نقتدي به ودعونا نتناول هذين المعنيين قليلا
المثل العليا: قيم ومبادئ
منذ دخلت الخطيئة في عالم البشر امتلأت الحياة البشرية بالسلوكيات المادية المصطبغة بالأنانية والنفعية والمادية والجسدانية وجميع هذه الميول تشكل صورة الحياة في مستواها الأدني حيث تتوارى القيم والمبادئ العليا التي تقوم على الحب والعطاء والتفاني في خدمة الآخر وتقديم الآخرين على أنفسنا ولكن الصورة المظلمة لعالم البشر تستضئ أحيانا بقيم سلوكية راقية تثير انبهارنا فنطلق عليها هذا المسمى الجميل المثل العليا وعلى هذه المثل العليا تتركز دعوة المصلحين الاجتماعيين الذين يوجهون الأنظار إلى الفضائل الإنسانية ويحاولون إقامة مجتمع اليوتوبيا القائم على العدالة والحرية
المثل العليا : نماذج بشرية
يوصف بعض الناس بأنهم أًحاب مثل عليا أي أنهم يتمسكون بالقيم والمبادئ فلا يحيدون عنها مهما كلفهم الأمر من تضحيات ونحن بالطبع نفخر بهذه النماذج البشرية المضيئة ونتخذهم قدوة لنا والمثل العليا في حياة إنسان ما تعكس ما تنطوي عليه نفسه من خير وما يتطلع إليه من رغبة في استعادة إنسانيته كما تعكس مدى ثقافته وتحضره
وقال أحدهم: لا تقل لي ما هي مثالياتك بل قلي لي من هم الأشخاص الذين تعتبرهم مثلك الأعلى وحينئذ أقول لك من أنت
سقوط الأعمدة في أحد الأفلام السينمائية القديمة يعالج المؤلف قضايا اختلال مثلا العليا فيحكي لنا قصة شاب صغير نشأ في أسرة ثرية حيث كان أباه يملك مصنعا كبيرا يدر عليه مكاسب هائلة وعاش الابن سعيدا بأبيه فخورا بإنجازاته معتبرا إياه رجلا مثاليا يدير مصنعه بذكاء وأمانة وظل الابن هانئا بهذا الفكر حتى وقع خلاف بين أبيه وأحد شركائه أدى إلى الكشف عن كثير من أسرار العمل واكتشف الابن المسكين أن أباه كان لصا ونصابا وقاتلا ومستغلا وأنه بنى مجده بالخداع على أنقاض وجثث الآخرين وحين عرف الابن الحقيقة انهارت الأرض من تحت قدميه وسقطت الأعمدة التي كان مستندا إليها وأحس بأن نفسه تسقط من سمائها المضيئة إلى قاع مظلم رطيب عفن
ولعل التاريخ قديمه وحديثه يرينا حكاما وقادة ومصلحين ووعاظا كنا نحسبهم الركائز التي تستند إليها ونتمثل بهم فإذا بهم ينهارون أمام أعيننا لنرى دفائنهم ونكتشف الأركان الرطبة في داخل نفوسهم البشرية الساقطة وكثيرا ما ننهار نحن أيضا فوق حطامهم
أرفع عينيك إلى السماء
من الخير أن نتمثل دائما بالناجحين والإيجابيين والمجتهدين وأصحاب المثل العليا فهم منارات لا يمكننا أن نتجاهلهم غير أن ينبغي أن نذكر دائما أننا جميعا بشر لنا طبيعة بشرية خطاءة ولنا نفوس أمارة بالسور ومهما سمت نفوسنا فإن لنا من نقاط الضعف ما هو كفيل بأن يسقطنا سقطات مريعة فقد يصل الإنسان إلى رياسة أكبر دولة في العالم ثم تسقطه نقطة الضعف ففي خطيئة أخلاقية متدنية
فمن الخير أن ندرك أن أرضنا الطيبة قد تلوثها الخطيئة ومن الخير أن ندرك أ، نفوسنا المعذبة تتنازعها الشرور ومن الخير أن ندرك أن طبيعتنا الساقطة لا تصمد أمام إغراءات الشر وأن عزيمتنا لا تحمينا من نوازع الخطيئة الشرسة
فلنرفع أعيننا إلى السماء حيث كمالات الله سبحانه ولنرفع قلوبنا إلى السماء حيث يستطيع الله أن ينير أعماقنا ويخلق فينا إنسانا جديدا قدمه بالأرض وقلبه بالسماء