عم خلف هو أول بقال في قريتنا وكانت بقالته بالنسبة لنا نحن الأطفال هي أعجوبة الزمان فقبل أن يبدأ مشروعه الحضاري كانت أكثر الصور تحضرا في مجال التجارة هي عربة اليد التي يجرها سعد العطار ويضع فوقها علب الصفيح التي تحتوي على الكمون واليانسون والكراوية والحلبة والشطة وغيرها من أصناف العطارة أما بقية تجار القرية من الرجال والنساء فكانوا يبيعون ويشترون على الأرصفة وبعبارة أدق كانوا يبيعون ويشترون على قارعة الطريق حيث لم يكن بشوارع القرية وحواريها ما يسمى بالرصيف أما البضائع فكانت تعرض في الزكائب والقفف والأطشات والحلل
وها هو عم خلف ينقلنا بفكره التقدمي إلى أجواء البندر فبعد أن هدم الفرن وباع الحمار أستطاع أن يحول إحدى غرفتي بيته إلى دكان ومنذ بدأ الخطوات التنفيذية لمشروعه اعتبرناه نحن الأطفال مشروعا قوميا يستحق أن نتفرغ له تماما لذالك حرصنا أن وهو يحول شباك الغرفة إلى باب وجرى كل منا إلى بيته يزف الخبر السعيد ويؤكد لأهله أنه رأى بعيني رأسه عم خلف وهو يهدم الجدار وفي الحال خرج الرجال يستطلعون الأمر وجلست النساء ينتظرن مراسلي الأخبار الذين هم نحن لمزيد من التفاصيل
أما يوم الافتتاح فكان حدث في القرية كلها فها نحن نرى دكانا مطليا بالجير الأبيض وعليه دهانات حمراء وصفراء وخضراء تكاد تضاهي بيت العمدة ولم نكن قد رأينا هذه الدهانات إلا على واجهة بيت النائب حيت عاد من الأراضي الحجازية
والحقيقة أن عم خلف استطاع أن يبهرنا بأساليبه الساحرة فقد جعل بالدكان رفوفا خشبية ورصص فوقها قطع الصابون الفخمة في شكل هرمي فهذا صابون أبيض مخصوص لغسيل الملابس وهذا صابون أخضر للاستحمام وهذا صابون أحمر بحمض الفينيك للتطهير وهذا الصابون نابلسي فاروق لزوم والشياكة وحموم العرايس وهناك رفوف أخرى للشاي والسكر وأكياس الملح وأدراج خشبية للبقول هذا كله غير برميل الكيروسين الذي يحتل مكانا بارزا في صدر الدكان وقبل كل شيء الفترينة الأمامية وبها اللب والفول السوداني والحمص والحلويات الملونة التي نعرفها نحن الأطفال ب الأرواح
أصبح دكان عم خلف المتنزه لجميع أطفال القرية يجلسون على الجانب المقابل له يستمتعون ببريق الحضارة التي هبطت علة كوكبهم وأصبح عن خلف رائدا فذا من رواد التجديد ومثالا يحتذى به في جميع الكفور والنجوع المحيطة
ومرت السنوات عديدة واتسعت القرية واختلفت كثيرا عما كانت عليه
وظهر بالقرية دكاكين أخرى ذات حوائط خرسانية ولها لافتات مضاءة بالكهرباء وواجهات مدهونة ببويات الزيت وبها أيضا ميزان أفرنجي وتلفون بمانيفلة وسبحان الله
وغضب عم خلف حين رأى الدكاكين الجديدة وقال إنها تقاليع شباب لا فائدة منها وحين نصحه بعض الأصدقاء بتحديث الدكان ليتناسب مع العصر رفض عم خلف بإصرار وقال إن دكانه سيظل دائما في مقدمة الدكاكين مهما تغيرت أشكالها
ولم تصدق نبوءة عم خلف فقد انصرف الناس عنه وعن دكانه فقل الزبائن وكسدت البضائع وتراكمت الديون واكتملت مأساة عم خلف بالآم الروماتيزم التي أصابت ركبتيه فتكون في ركن دكانه الرطب حتى وافته المنية
وحين زرت القرية أخيرا علمت أن خلافا وقع بين إثنين من أبنائه فقد قال أحدهم نعيد تعمير الدكان وقال الآخر نضمه إلى الشقة لنضع فيه الحمار ونعيد الفرن المهدم ولا أعلم إلى أين انتهى قرار الأسرة
مسكين عم خلف لم يعلم أن الحياة تتجدد في كل يوم
الحياة تتجدد
قدي حسب البعض أن الحياة تتغير من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل وهذا حقيقي وواضح لنا جميعا لكن الأمر أكر كثيرا من مجرد التغير الظاهر في شكل الحياة من جيل إلى آخر فالحياة تتغير من لحظة إلى أخرى فاللحظة التي نعيشها الآن ليست هي التي عشناها من قبل وليست هي التي سنعيشها واليوم الذي نحياه الآن غدا سيصبح أمسنا والنبتة التي نراها الآن على سطح الأرض تتغير خلاياها الدقيقة في كل لحظة من الزمن لتشكل شيئا آخر غير ما كان وقطرة الماء التي نشربها اليوم ليست ذاتها التي سنراها غدا في ندى الصباح وكل خلية حية تتشكل وتتغير لحظة بلحظة لتكون إنسانا أ وطائرا أو شجرة وكل شجرة تسقط أوراق قديمة لتخلفها أوراق جديدة تماما غير التي مضت وحين تمضي الشجرة نفسها فهي أيضا تخلف وراءها بذورا غير التي كانت وحياة غير التي مضت وبالطبع فإن الحديث هنا ليس عن التركيب الكيميائي أو المادة التي لا تفنى ولا تستحدث لكنه عن حركة الحياة الدائمة والمتجددة أبدا
إذن فالحياة في طبيعتها ليست ساكنة راكدة بل هي متجددة أبدا ومن لا يصعد على أجنحة الحياة يرقد على أرصفة الركود ومن لا يعيش في جدة الحياة تحتضنه أكفان الموت
الإنسان الجديد
لا شك أن الحياة تجدد نفسها وبكلمات أدق نقول إن الله يجدد يوما بعد يوم فالله هو رب الطبيعة وخالق الكون وهو الذي بنسمته بعث الحياة منذ البدء في الأرض الميتة وهو الذي بروحه لازال إلى الآن يملأ لنا أرضنا بالحياة
لذالك فمن الطبيعي أن الله الذي يحيي لنا الأرض لابد أن يحيينا نحن بالأولى
والله الذي يجدد لنا الحياة لابد أن يجدد نحن بالأولى والله الذي يخرج من البذور الميتة ثمرا جديدا لابد أن يخرج من الإنسان أيضا إنسانا جديدا فمن هو الإنسان الجديد؟
الإنسان الجديد بهذا المعنى لا يقصد به الإنسان الحديث والمتحضر وليس هو المتطلع إلى المدينة الممسك بأطراف الثقافات العالية وليس هو ساكن القصور وصاحب الإمكانات المتطورة وليس هو العالم بالتقنيات العلمية الحديثة
الإنسان الجديد بهذا المعنى لا يقصد به الإنسان الذي تجدد مظهره الخارجي أو تغيرات انتماءه الاجتماعية فأصبح يرتاد المنتديات الشهيرة
الإنسان الجديد بهذا المعنى لا يقصد به اعتناق أفكار فلسفية أو حتى دينية يتشدق بها أمام الآخرين
الإنسان الجديد هو من يغير الله قلبه فيبعث فيه حياة جديدة تماما كما يبعث الحياة في الأرض الميتة الإنسان الجديد هو خليقة جديدة لإنسان قديم عمل لا نقوم نحن به البشر بل يقوم به روح الله روح الحياة
فكيف أصير إنسانا جديدا؟
إن الفلاح لا يحي الزرع ولا يمنح الحياة للبذور إنه فقط يلقى بها في الحقل مؤمنا أن الله يحييها فإذا أردت أن تصير إنسانا جديدا فتلق بذاتك أمام الله معترفا بموتك وسيقيمك الله إنسانا جديدا
