مبادئ إنسانية

من يدفع الثمن؟

8 مبادئ إنسانية

الله قيدي الله حريتي

من يدفع الثمن؟

غضب الملك على أحد حكماء مملكته المخلصين فقد كان الرجل يحذره من عواقب أعماله وينذره بالهلاك إذا هو استسلم لأهوائه ولم يكن قليلا على الملك أن يواجهه أحد رعاياه بدنايا نفسه ولم يكن قليلا على الحكيم أن يغضب عليه الملك لذالك لم يعد خافيا على أحد أن الرجلين كليهما يسيران في طريق شائك الحاكم يهلك بسبب رعونته والحكيم يهلك بسبب أمانته

وعلى عادة القدماء ألقى الحاكم بالحكيم في بئر ضحل ليغوص جسده الرقيق في الطين في قاع الجب المظلم الرطب

ومرت الساعات والأيام والشهور ثقيلة مضنية على الرحل الذي أضناه البلاء وهو يأكل ما يلقى إليه من طعام قليل فوق ماء موحل وينام ويصحو واقفا كعود الحطب الرطب على ساقين نحيلتين حتى تورمت قدماه والتهب جلده وبلى جسده وصار أقرب إلى الموتى منه إلى الأحياء فأرسل إلى الملك يسترحمه ويترجاه

وجد الحاكم أن خطته قد أتت ثمارها وها هو صوت الحكيم المنذر قد صار خافتا واهنا ويبدو الآن مستعدا أن يقبل أو يبرر أعمال مليكه الطائشة

وأنتشل الحكيم من القاع وحمل مكرما إلى قصر الحاكم

قال الحاكم أخيرا اقتنعت أيها الحكيم برأي سيدك الملك وجئت معترفا

قال الحكيم لا بل جئت مسترحما

أما عن قناعتي فقد أصبحت الآن أكثر يقينا بأن كأسك قد امتلأ بالشر وفاض فظننت أنه بمقدورك أن تحرر جسدي لتحبس ضميري يا سيدي أني لعفوك فالبئر لا يطاق لكنه أرحب كثيرا من جنة تقيد فيها قلبي ولساني وضميري ورسالتي

وعاد الحكيم إلى قاع البئر حر الضمير بقلب شريف في بوتقة من نار وضمير حر في قفص من حديد كان جسدا ملطخا بالوحل وقلبا نقيا صافيا كالذهب جسمه يغطيه التراب وروحه تعلو فوق السحب 

أما صاحب التاج فقد ظل مقيدا بأحقاده مسوقا بأهوائه يتعذب وهو على فراش من حرير

الحرية والجسد

يتصور الكثيرون أن الحرية هي انطلاق الجسد وتحقيق رغباته بلا عوائق أو قيود والصورة التي ترتبط بالأذهان هي وصرة الطائر المنطلق في الهواء

وهذه الصورة البراقة الحالمة للحرية بمعنى الانطلاق الذي لا تقيده القيود هي صورة خادعة لا تكشف سوى عن جانب واحد يخفي وراءه الكثير ونأخذ لذالك بعض الأمثلة

الطائر والقطار:

ينطلق الطائر في الفضاء بلا قيود على حين ينطلق القطار في مسار محدود لا يخرج عنه فخروجه عن قضبانه يعتبر كارثة وخرابا ومع ذالك فإن حرية القطار المقيدة بأشرطة السكك الحديدية إذا جاز لنا التعبير أوفر من حرية الطائر المنطلق على هواه فالطائر لا يطير ليمارس حريته فقط بل ليلتقط طعامه وطعام صغاره وهو يطير ليتفادى سهام الصيادين ويطير ليراوغ الطيور الجارحة والأفاعي التي تصعد إليه في عشه إن حريته تقيدها قوانين كثيرة ومخاطر عديدة فليس من حقه أن يثبت رأسه فوق جسده لحظة بل عليه أن يدير رأسه في كل اتجاه ويرسل عينيه في كل صوب وليس باستطاعته أن يضع قدما بأرض دون أ، يكون عرضة للقتل أو الأسر

وينطبق هذا على أسماك البحر وحيوانات الصحراء الطليقة ولو تأملنا الطبيعة لما وجدنا حرية ولا قيد عليها وهو القيد الذي يصونها ويحميها من الضياع حتى الكواكب في أفلاكها تتحرك في نطاق قوانين دقيقة صارمة لولاها لأحترق الكون بأسره

وهذه حكمة الله الذي يحمي حرية الطائر بالأجنحة ويحمي الكواكب بالقوانين الصارمة ويحمي الإنسان بعقله وإرادته الحرة

حكمة المنطاد

عندما أطلق الأخوان مونجولييه منطادهما المملوء بالهواء الساخن أرتفع في ثوان معدودة إلى الفضاء البعيد ولم يعج إلا بعد أن برد الغاز فسقط المنطاد وسط الحقول فمزقه الفلاحون الذين أرعبهم اندفاعه

فقد كان من المستحيل أن ينطلق هذا الجسم الهائل بلا ضوابط ثم يعود سالما إلى الأرض لقد كان منطادا طفلا خفيف المحتوى يحمله الهواء إلى غير هدف فلما أريد له أن يكون نافعا مهدفا وضعت فيه الأثقال التي تحد من اندفاعه وتقنن سرعته كان لابد أن تقيد حريته من أجل سلامته

إن بعض الناس يشبهون منطاد مونجولييه تسيطر عليهم ريح ساخنة من الرغبات تملأ أجوافهم فما أن تطأ أقدامهم أرض الحرية حتى تحملهم الريح إلى جوف الفضاء الموحش والعواصف العاتية والتيارات المضادة فيسقطون ويتمزقون

الحرية الحقيقية

الحرية الحقيقية ليست الحق الذي يجيز للإنسان أن يمارس الشر بل هي الحق في الارتفاع عن دنايا النفس وشهواتها وإطعامها إلى آفاق عالية من السمو الروحي والإنساني وكما تقول جورج صائد إنها القوة تجعل العبد حرا والحر قديسا أو شهيدا

إننا نصبح أحرارا حقا حين نتحرر من أنفسنا من الاندفاع وراء رغباتنا حين نتحرر من  مجرد الرغبة في تحقيق الحرية المطلقة

إن واحدة من الحقائق التي تبدو متناقضة في تكوين الإنسان الروحي هي أن سبيله إلى الحرية يبدأ بالقيود التي يضعها لنفسه

فهناك من يربح الدنيا كلها ويخسر نفسه ويفقد حريته وهناك من يتخلى عن الدنيا بأسرها فيجد ذاته ويجد حريته

ولكن

هل يقدر المرء أن يحقق الحرية المسئولة التي تقدر التزاماتها تجاه الآخرين؟

هل باستطاعة الإنسان أن يفرق بين حريته واستغلال نفوذه وسلطته وفرضه إرادته على من هم تحت رياسته؟

هل بمقدور الإنسان أن يكبح جماح شهوته ويحترم كرامته وحرية إرادته التي ميزه الله بها عن سائر حيوان الأرض؟

نعم يستطيع

فالإنسان أعلى المخلوقات التي صنعها الله وقد منحه الله حرية لكنه كغيره من خليقة الله لن يحقق حريته ما لم يكن على علاقة سليمة بغيره من رفقاء الوجود وعلى علاقة روحية وثيقة بربه وخالقه

كان يوسف الصديق بعيدا عن بيت أبيه وع عيون الرقباء لكنه كان يعرف أن حرية نفسه وضميره أغلى من كل ما في خزائن فرعون لذالك فقد ظل قويا أمام الضغوط ولم تستطع الشهوة أن تكبل حريته اليقظة

وحين ألقى وراء قضبان السجن ظل حرا طليقا برغم القيود كان ظاهره سجينا وواقع طليقا

لقد كان الله في قلبه فلم يمل القلب

وكان الله أمام عينيه فلم تزغ العين

وهذه هي الحرية الحقيقية

لكن الحرية الحقيقية باهظة الثمن

هناك أشياء كثيرة يستطيع أن يشتريها الناس العاديون وأشياء أكثر يستطيع شراءها متوسطوا الحال ولا حصر للأشياء التي يمكن أن يشتريها الأثرياء وأصحاب الملايين لكن هناك أِياء لا تشترى بمال أو عقار أو كل كنوز الدنيا فثمنها مقدور البشر والحرية واحدة من هذه الأشياء

والحرية التي أقصدها هنا هي حرية الإنسان من سلطان شهوته ومطالب جسده

فعلى مر العصور ولم يستطع أذكى البشر وأنجحهم وأعظم العلماء وأحكمهم وأفضل المعلمين وأوقرهم أن يتحرروا من لهيب الشهوة في لحظة الرغبة الجامحة أو من جحيم النقمة في لحظة الغضب الثائر أو من برودة الصمت والخيانة في لحظة الخوف المرعب أو من دناءة الغدر في لحظة الغيرة القاتلة

وفد خر كل واحد منا يوما صريعا أمام إحدى نزواته أو شهواته أو عادته فصار لها عبدا ذليلا مهما بدا في عيون الناس بطلا أو سيداتي وسادتي: وحاول كل واحد فينا مرارا أن يتحرر من دناياه الخفية فإذا به يكتشف أن هذه الصغائر أقوى منه كثيرا

وحين نخلو إلى أنفسنا نعترف أننا لا نملك تكاليف حريتنا فثمنها فوق مقدورنا

من يدفع ثمن تحريرنا؟

كان يحدث قديما حين كان بعض المقهورين من بني البشر يباعون في سوق العبيد كان يحدث أن سيدا كريما شهما يتقدم ليدفع ثمن أحد العبيد المنكسرين ثم يطلقه إلى حريته

هكذا يفعل الله اليوم بنا حين يرى انكسارنا أمام عدالتنا وخطايانا التي سلبتنا حريتنا وباعتنا في سوق الشهوة  إنه وحده الذي يستطيع أن يحرر الأجساد المستعبدة وينشط العقول الخاملة ويدفع الرغبات الجامحة ويخلق الأرواح اليقظة

إن الله هو الذي يسند الخائر والجبان والضعيف فيخلق في داخلهم إنسانا جديدا أقوى من الضعف والخوف والشهوة

الله وحده يملأ الإنسان المستعبد المغلوب بروح جديد روح من ذات الله.. روح الحرية الحقيقية التي تدوس الشهوات ورغبات الجسد لأنها روح الطهر والقداسة الإلهية

إن حررنا الله صرنا أحرارا حقا فهو يدفع الثمن عنا وإن لم يحررنا الله فسنظل عبيدا فالثمن فوق قدرتنا

صرخة إنسانية

يا ربنا

يا من تملك وحدك أن تدفع عني ثمن الحرية

إني آتي إليك بروح خائرة تجثم تحت جسد

 ثقيل ألتمس قبسا من روحك ليحل في قلبي

 الأسير فيحيل ضعفي قوة ويبعث الحياة

 في جذوري العفنة حررني فأصير حرا

يا ربنا

هل يستطيع الرضيع أ، ينجو

بقوته من أنياب أسد جائع؟

ولا أنا أستطيع أن أنجو من أنياب المألوف

والمتوارث والسائد

فحرر عقلي من أفكار بالية وطقوس

جامدة توارثتها الأجيال وأصبحت أنا

أسيرا لها وسجينا أرسف في أغلالها

أطلقني من سجن عبادتي الشكلية إلى

حرية الاستلهام من نور هديك والاسترشاد

بروح قدسك والسكون إليك في خلوتي

وضراعتي بين يديك

أطلقني من سجن حريتي الزائفة

إلى رحب حريتك الحقيقية

يا رب

من يدفع الثمن؟
من يدفع الثمن؟

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× كيف لي ان اساعدك ؟