تأملات القراء

الآخَر هو أنا


صنع الله كل قبائل الأرض من أم واحدة هي حواء وأب واحد هو آدم. لا شيء أكثر من هذه العقيدة التي تتشارك فيها الديانات الإبراهيمية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) يوضح أكثر، بل يؤكد، ان كل البشر على هذه الأرض هم إخوة. وعلى الرغم من اننا كلنا إخوة، فنحن البشر نبذل جهدنا لكي نجد عناصر التفرقة والخلاف، فنغذيها مدعومة بغرورنا وقصر نظرنا، حتى نبني حيطانًا وسدودًا بيننا وبين الآخرين. فهناك التفرقة العنصرية والتمييز بحسب الجنسية وبحسب الطبقة الاجتماعية… وكل تلك المجهودات التي بذلتها وما زالت تبذلها البشرية لجعل الأمور تسير عكس ما أراده الله للبشر.

لكن الحياة تسخر منا وما فتأت تصهرنا في بوتقة واحدة إسمها الانسانية. فالاحتباس الحراري يؤثر على المناخ في كل أرجاء العالم، وليس فقط البلدان التي تطلق أكبر كمية من الغازات الضارة للبيئة في الجو. قد يكون منشأ مرض السيدا هو أفريقيا ولكنه الآن يحصد ضحايا من كل الأمم على وجه الأرض. أزمة في قطاع العقارات في أميركا سببت ضائقة إقتصادية في كل العالم، لم يسلم منها بلد. أما فَطورنا المؤلف من شاي ومربى وزبدة فيشارك في تصنيعه العالم كله تقريبًا: الشاي من الشرق الأدنى، السكر من أفريقيا، المربى من الشرق الأوسط، القمح للخبز من أميركا، الزبدة من أوروبا…

إذًا ما تزال الحياة تؤكد لنا في كل يوم اننا جميعنا كبشر في مركب واحد هو الكرة لأرضية، وإن مصيرنا مرتبط الواحد بالآخر. شئنا ذلك أم أبينا.

يقال الكثير هذه الأيام عن مجد الأندلس الضائع. وهناك حنين في قلب كل عربي الى استعادة أيام العز تلك. لكن بعض التمنيات ترسم خارطة خاطئة ومضللة لطريق استعادة تلك الأمجاد. فهناك مقولة اننا اذا كنا نريد، كعرب، استعادة مركز قيادتنا للعالم علينا أن نرفض هذا العالم وأن نسعى بكل قوتنا لتدميره. ترى، هل هذا ما فعله عرب الأندلس ليصلوا الى العز الذي وصلوا اليه؟ الوقائع تشير الى عكس ذلك تمامًا.

فالأندلس كانت محطة عالمية بامتياز. كنا نجد فيها كل الجنسيات والناس من كل الأمم. أي عالِم أو باحث أو طبيب أوفيلسوف كان يجد فيها التشجيع والدعم والتوجيه دون تمييز عنصري أو طبقي. كان حكام الأندلس يظهرون الاحترام للأديان ويهتمون بالناتج الفكري للانسان دون لون بشرته وحجم محفطة نقوده. فأصبحت الأندلس راعية والفنون ورائدة العلوم في الأيام التي كانت فيها أوروبا ترتع بالجهل. والسبب بسيط: كانت أوروبا منغلقة على نفسها، تكفّر العلماء وتجبرهم على إنكار إنجازاتهم إن لم ترق لكنيسة تلك الأيام، كما حصل مع غاليليو الذي نادى بأن الأرض كروية. بينما كانت الأندلس منفتحة على كل العالم تتقبّل كل فكر جديد وتناقشه وتتبنى منه ما يناسب ويفيد.

خلق الله العالم بدقة مدهشة وجمال لا يوصف. فلو كانت المسافة التي تفصل الأرض عن القمر أقرب بميلمترات قليلة لفاضت المحيطات وغطّت اليابسة. لقد علّق الله هذه الكرة الأرضية في الفضاء بدقة متناهية تصل الى المليمترات! هناك ملايين وملايين الفصائل من النبات والحيوانات، مع ذلك لا يشبه أحدها الآخر ولكل منها خاصيته وخصوصيته. البشر في العالم يتنوّعون بشكل جميل من عرق ولون وثقافة وحضارة ولغة ودين، وكل تلك التمايزات تجعل حياتنا ملوّنة ومدهشة في كل يوم. كل إنسان له شخصيته الخاصة به وكلما التقت شخصيتان تكوّنان علاقة فريدة لا تشبه علاقة اثنين آخران. سبحان الله! لقد أبدع في صنع هذا العالم. فهل يمكن أن يتركه في يد من قد لايحسنون إدارته وقيادته؟ هل يسلّم الله العالم لنا إن كنا نسعى إلى إلغاء التنوّع الجميل فيه ونحول مجتمعاته الى لون واحد وفكر واحد، الأمر الذي يضمن انهياره وموته؟ هل نحن أكفاء لنقود الأبحاث حول السرطان والأمراض الأخرى؟ لنقود الاكتشافات العلمية والفضائية؟ لقد كنا هكذا في ما مضى وعلينا أن نعود الى ذلك الموقع المتقدّم في أسرع وقت ممكن.

الطريق الى استعادة ريادتنا كعرب لا يكون بالانغلاق على العالم وتصنيفه وكرهه. بل يكون بالانفتاح على العالم وباعتبار الآخرين شركاء لنا في كل ما تحصّله البشرية من الفكر والعلم. قد يقول المعترضون ان الدول الغربية لا تترك لنا مجالاً للحصول على التكنولوجيا. وهم في شكواهم أشبه بتلميذ في المدرسة يبكي لأن التلاميذ أخذوا كل العلامات ولم يتركوا له علامة واحدة! الريادة تحتاج الى الجهد والعمل والكد ولا يجلس الرواد وينتظرون منّة من أحد. بل يقومون ويتعبون ليصلوا الى المقدمة وهكذا يصبحون روادًا. إن كنا نريد التقدم، فلا ننتظرن ذلك من أحد على صينية من فضة. التقدم هو صنيع الأمم إن أرادوا.

من هو العظيم بين الناس؟ هو الذي ينفع الناس. الأمة العظيمة هي الأمة التي تنتج أفرادًا ينفعون البشرية، يكتشفون أدوية لعلاج أمراضها، يستجيبون للمجاعات بالعطاء، ويتناشدون لمساعدة ضحايا الزلازل بكل الطرق الممكنة؛ الذين ينفقون على الأبحاث العلمية لكي تنير الزوايا التي ما زالت مظلمة في عالمنا. على هذا، فإن الطريق أمامنا ما زالت طويلة، رغم اننا نستطيع بلوغها بلا أدنى شك، ان كنا نجيد تصحيح بوصلتنا والتعلم من الرواد العرب الذين سبقونا.

جلس المسيح على شاطئ البحر يعلّم الناس ان يحبوا ويغمروا العالم بمحبتهم، بينما جلس الوالي هيرودس في قصره حاقدا على العالم مرسلاً جنوده ليبطشوا بالناس. لكن دعوة المحبة التي أرسلها المسيح الى العالم أرجعت وما زالت ترجع ملايين الصدى، بينما انطفأ هيرودس في قصره ولم يذكره أحد فيما بعد.

تعاسة الآخر لا تصنع سعادتي، لأن الآخر هو أنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× كيف لي ان اساعدك ؟