تأملات القراء

لا تجعلوا فرحة الميلاد دمعة في عيون الناس

يعود علينا موسم الميلاد هذه السنة وكأن شيئًا لم يتغير في شرقنا الحبيب الذي لا يزال ينزف ويعاني الويلات والضربات والانشقاقات والطعن بشتّى الحَربات لتشوّه جسده المجروح المُدمى حتى كاد لا يكون شكلا له ولا هيئة، فالدم النازف غطى وجهه الذي كان مشرقًا في يوم من الأيام وفي زمن من الأزمان. دماء تُراق يوميًا من كافة الأطراف لتمحو من كتب التاريخ وتفسد ما سجلته الصفحات من أمجاد الماضي وانجازاته.

الكنائس تقصف وتُدمَّر وكذلك المساجد… أشلاء هنا وهناك، أُم تبكي وتبحث عن أولادها، أطفال تصرخ وحضارة تُدمَّر. أصبح اللون الأحمر، لون الدم، يكسو الأزقة والشوارع والجدران وكأنه بات أمر طبيعي مألوف، واختلط لون الزينة الحمراء لموسم الميلاد بلون الدم والويلات مما جعل البعض ينفر من هذا اللون، لأنه أصبح يذكرهم بالموت والقتل والجراحات. وبات الموسم موسم الصّلب، و اللوحة لوحة الموت، والمشهد تحول من مشهد المذود إلى جلجلة و جنود رومان، وهدايا المجوس الى حربة وسيفا تطعن جسد ابن الإنسان والإنسان . كيف يكون هذا!! وكيف يتحول موسم المهد إلى اللحد .

لحظة أيها القارئ، ألم يقل سمعان الشيخ للقديسة العذراء مريم يوم كان يسوع طفلاً انه سيكون ” كعلامة تقاوم ” لوقا 35:2 ” وأنت يا مريم سيجوز في نفسك سيف”. لقد أدركت يا سمعان الشيخ وعلمت مسبقًا وكأنك تقرأ سفرًا عتيقًا يُنبئ بما هو حاصل اليوم و امتد بصرك إلى الأفق البعيد لترى ما ينتظر البشرية من سيوف وخناجر وطعنات.

والغريب في الأمر أننا نعيش ونتصرف ونحتفل وكأن ما يحدث في شرقنا وعالمنا أمر طبيعي مألوف، كأن الإنسان الذي ينزف دمه حتى الموت ليس من البشر. نلهي أنفسنا بالحفلات والإحتفالات والمهرجانات هروبًا من هذا الواقع الاليم واختباءً من مناظر القتل والدمار المشين. ربما لأننا مللنا هذا الواقع و السيناريو الذي نعيشه، والذي يتكرر سنة بعد سنة، ولا نرى في الافق اي ملامح للتغيير .

وقد يقول البعض إن الأمر بعيد عنّا ولن يصل إلينا، لكن الواقع أخطر مما نفكر، واقرب مما نعتقد، كما قال معاصرو نوح في حينه مستغربين من بنائه للفلك ومستبعدين حصول الطوفان فجاءهم بغتة وهم يحتفلون.
عذرًا عزيزي القارئ إن كانت كلماتي توحي بالقسوة والسواد لكن ليس هذا إلا لكي نعي واجباتنا ومسؤولياتنا ودورنا في عملية التغيير.

يتوجب علينا هذه السنة وهذا الموسم الميلادي أن نبتهل قبل أن نحتفل لكي تكون أيام احتفالنا بالميلاد صلاة و توبة واستغفارا لينهضنا الرب من كبوتنا ويغفر لنا شر معاصينا، ولكي يسكب بلسم تعازيه على جسد بشريتنا الجريح، ليعود القلب البشري يضخ دمًا طاهرًا في عروقنا ويعود الإنسان إلى إنسانيته في شرقنا والعالم اجمع .
ميلاد السيد المسيح هو ميلاد وتجسد المحبة التي تربطنا كأبناء وبنات إبراهيم.

ميلاد السيد المسيح هو ميلاد الأمل، الحب، الوفاء والتجديد .

ميلاد السيد المسيح هو ميلاد السلام الحقيقي .

ميلاد السيد المسيح هو أنشودة حب لا بداية لها ولا نهاية، أعلنت عنه الملائكة مرنمة “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة”.

ميلاد السيد المسيح هو التواضع والتفاني، فالكلمة صار جسدا وحل بيننا، أي انه قريب من شعبه وخليقته، بيوتنا وأزقتنا قرانا ومدننا جاء لكي يخدمنا ويزرع المصالحة في قلوبنا. كما كتب عنه رسول الأمم بولس ” إن الله كان بالمسيح مصالحا العالم لنفسه ” فالعظيم العظيم هو من تواضع على قدر سموه وارتفاعه. فمسيحنا عظيم لأنه متواضع.

الميلاد هو استئصال الخبث و البغض والحسد والعنف، وإن كان بين البغض والحب حرب، فلا تخافوا حتى وان صلبت المحبة وطعنت وقتلت فسوف تقوم حتما منتصرة ليعود المهد حياة دائمة، والموسم موسم فرح والمشهد مشهد سلام ووئام . فلا هدنة بعد اليوم ولا مساومة بين الحياة والموت، النور والظلام، الحق والباطل، لان السيد المسيح بتجسده وميلاده صار إنسانا ليجعل الإنسان حرا و لينتزعه من حيوانيته ويشركه بمحبته.

صلاتي أن يكون هذا الموسم الميلادي موسم ابتهالات قبل الاحتفالات وان نعيش مبادئ الميلاد بحياتنا وتصرفاتنا، ليصبح الميلاد حبا وصبرا ومغفرة وعطاء وأنشودة حب ليست مطبوعة على ورق او مرنمة بشفاهنا بل منقوشة في قلوبنا ونفوسنا فنكون إيقونة حية مقروءة وملموسة. إن فعلنا هذا، ستعود بهجة العيد وفرح الميلاد إلى ربوعنا وعالمنا .

بهذه الصورة المشرقة أُنهي رسالتي متمنيا لجميعنا ميلاد مجيد وشرق جديد بنور الرب يسوع الحبيب.

بقلم: القس حاتم شحادة

لا تجعلوا فرحة الميلاد دمعة في عيون الناس
لا تجعلوا فرحة الميلاد دمعة في عيون الناس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× كيف لي ان اساعدك ؟